فلوس الشعب المطحون..

هذا الشعب الذي يعيش أسوأ أيام في تاريخه الذي لا يقل سوادا -في طاحونته التي تفرم أجساد أبنائه- عن لون شعر ليلى في مدائح قيس لها!! أو لون مقلة عيني بثينة في قصائد جميل بثينة.. لكن الفرق الواضح أن الحكومات المتعاقبة بشكل عام والحكومة الحالية بشكل خاص اختارت أن تكون أيامه كذلك؛ ليس تغزلا في شعبنا ولكن لسبب آخر أكثر رحمة.. فقد تبين أن الشعب المصري لديه عيون حساسة لضوء النهار.. فما أن يرى نهار الحرية أو يرى ضوء فجر لمعيشة الإنسان العادي مثله كمثل باقي البشر في كل بلاد العالم حتى يصاب بكارثة بصرية ويعمى عن رؤية الحقائق..

ولا عجب فكلنا يتذكر فيلم الكيت كات واللقطة التي يصف فيها المواطن المصري الشيخ حسني بالعمى وأنه بمجرد أن رأى الحورية تخرج من البحر ونظر لضوء النهار لم يعد يرى شيئا!! والظاهر -والله أعلم- أن حكومتنا غلبانة وإحنا اللي مش فاهمين!!

كنت بمكان عام أتصفح إحدى الجرائد، وعبثا تساءلت وأنا أطالع الأخبار: هي فلوس الشعب الغلبان ده بتروح فين!! فأجابني أحدهم على الفور: ولا حاجة لجيوب مواطنين مصريين برضه أكثر دراية وقدرة على صرفها!!

يعني لولا فلوس الشعب كان هيجيب منين الراجل الغلبان "هشام طلعت مصطفى" الـ50 مليون دولار علشان يعرضهم على امرأة جميلة في عينه طمعا في ساعات الدفء في ليالي شتاء مصر الباردة!! أو حتى الـ2 مليون دولار اللي ممكن يعرضهم على قاتل أجير علشان يخلّص نفسه من آلام العشق ويطفئ نار الغيرة ليتفرغ لإدارة جزء من أموال مصر وشعبها اللي يا عيني مابيعرفش يفك الخط ومش عارف مصلحة نفسه!! الراجل خد من فلوس مصر علشان يريح قلبه ويتفرغ لشعب مصر..

وضعت رأسي في الجريدة خجلا فإذا بخبر يظهر على إحدى الصفحات على استحياء كأنه فتاة بكر تسير في شارع مشبوه!! خبر يتكلم عن كارثة الدويقة والأرواح التي أزهقها الإهمال والتسيب والاستهانة بأرواح الأبرياء من أبناء شعبنا.. وكيف أن الحكومة الرشيدة سارعت بنصب خيم الإيواء في حديقة الفسطاط للمنكوبين في حين تقف عاجزة عن انتشال جثث ذويهم من تحت الأنقاض..

ويا لحظّي التعس فقد كان هذا الخبر المفجع منشورا بجوار ذلك الخبر الذي يتكلم عن الملايين التي يريد رجل أعمال شهير -يؤثر تأثيرا بالغا في البورصة المصرية- أن يلقيها على غرامياته في فيلم سينمائي تستطيع أن تطلق عليه من جديد عنوان "رغبة متوحشة".. أو "غرام وانتقام"..

ثم تطالعك الصحيفة بخبر ثالث يحمل توقيع السيد "سمير زاهر" عن المكافآت المجزية التي تنتظر اللاعبين المحاربين المظفرين للمنتخب القومي بعد أن سجل الفريق هدفا في مرمى الكونغو!!

نكبة لا تجد الحكومة المسكينة المال لاحتوائها في حين تقوم بتوزيع المال على لاعبي الكرة؛ لأنهم أحرزوا هدفا في مرمى فريق إفريقي!!

إن ما هو واضح للعين المجردة أن الفساد قد ظهر في برّ مصر وبحرها، فساد في البحر حطم العبارات المتهالكة فأزهق ألف روح مصرية فاختنقت الأسماك في البحار وتلوث الهواء الذي يستنشقه الناس.. فساد في برها أغرق الأرض والسهل والوادي حتى وصل إلى قمة الجبال فأسقط حجارتها على رؤوس شعبنا المسكين.. فساد في كل شيء جعل رائحة المال الحرام تفوح من كل مكان إلا ما رحم ربي..

الأعجب في هذا البلد العجيب حقا أن الإحصائيات تقول بأن أغلى سيارات العالم موجودة على أرض مصر.. وأغلى طيارات العالم مركونة في مطارات خاصة لرجال أعمال مصر، فإن قالوا إن أبناء الباشاوات كانوا يتبارون بمن يملك سيارة أفضل في زمن مضى فإن أبناء رجال الأعمال يتبارون بمن يملك طيارة أحدث في هذا الزمن الحزين..

فأي عبث يحدث في هذا البلد؟
وبأي منطق تدار الأمور؟!..